نبش في ذاكرة مغربي يهودي.. باباجوك: رضعت من مسلمة وإسرائيل تبنات بكتاف مغربية وبقا فيا ما دوزتش العسكر هنا -فيديو
وفاء بلوة
لحية غطاها الشيب، لكنها لم تغطي ابتسامة عريضة، ولا تمكن المشيب من حيوية وجه سمح بشوش. استقبلنا عند مدخل إحدى الضيعات بمنطقة بوسكورة بالدار البيضاء، ليرحب بنا وننبش سويا ذكريات أزيد من سبعين سنة، من ذاكرة مغربي يهودي.
عمرام المالح الملقب بـ “جوك” أو باباجوك، وبخطوات خفيفة متسارعة سار أمام طاقم “سيت أنفو”، وأشار علينا بمكان لركن السيارة، مشددا على أهمية التعقيم قبل دخول البيت، لأنه على حد قوله “رجل كبير”، قبل أن تتلقفنا عيون باسمة أخرى، هي عيون عائشة صديقة “جوك”، المسلمة التي تشاطره البيت وحب الموسيقى، كما تساعده على تحمل مشاق تنظيفه وترتيبه، وبحسب ما يرويه “جوك” فإن عائشة تكلفت بالعناية بوالدته، منذ ما يزيد عن 30 سنة.
أدخلنا “جوك” قبو البيت حيث يضع آلاته الموسيقية، ويستمتع بالغناء للسلام والتعايش بين الأديان بقطعته ( SALUT، شالوم، سلام)، قبل أن نصعد إلى العلية ليعيد نسج الحكاية، حكاية مغربي أصيل ويهودي الديانة، من أم “داودية” نسبة إلى منطقة سيدي بن داود التابعة لإقليم سطات، ومن أب ينحدر من منطقة إغرم بإقليم تارودانت، وكيف توالت الأحداث وهاجرت العائلة إلى البيضاء، إبان عهد الحماية.
رضاع في “الملاح”
يروي “جوك” بأن جدته وبناتها آثرن الانتقال من “العروبية” إلى “المدينة القديمة” بالدارالبيضاء، حيث وضعته والدته الزهرة بمستشفى “الصوفي”، خلال يومي صيفي من سنة 1944، ليرى النور ممتزجا بالجوع ودخان البارود بدرب “بوخويمة” إبان الحرب العالمية الثانية، ويستطرد قائلا: “خلال تلك الفترة كنت تذهب لأخذ حصتك من الطعام، حتى الخبزة يجب عليك إخفاؤها جيدا وإلا سرقت منك.. كانت فترة صعبة..”، بيد أن الجوع والحرب لم يمنعا الإنسانية وحسن الجوار من التواجد في درب بوخويمة حيث ترعرع “جوك”.
” في بيتنا بدرب بوخويمة، عشنا سويا مع أمي مينة وبا صالح المسلمين، إلى جانب جيران مسيحيين و إسبانيين وبرتغاليين وصينيين أيضا، والمشترك بيننا هو أننا كنا “دراوش”، وذلك بعد أن فتح “الملاح” ذراعيه لاستقبال مختلف الأديان والأجناس، ولم يعد حكرا على اليهود فقط، وبعينين ملؤهما الحنين يروي عمرام المالح كيف أن نساء الحي في صغره، وعلى اختلاف دياناتهن أرضعنه وباقي أقرانه، ” كانت الشابات من نساء الحي على اختلاف دياناتهن وأعراقهن، يجتمعن لإرضاع الصغار، في ما يشبه الحضانة، وبالتالي فقد رضعت حليب أمي، كما حليب صديقاتها، وهذا كان أمرا عجيبا..” يضيف المتحدث.
وعن التعايش بين الديانات السماوية الثلاث، الذي شهده البيت حيث خطى “جوك” خطواته الأولى، يقول إن اليهود كانوا يحترمون شهر رمضان ويشاركون جيرانهم المسلمين احتفالاتهم بعيد الأضحى، كما يحتفون مع جيرانهم المسيحيين بعيد الفصح المسيحي، إلى جانب الاحتفال بعيد الميلاد، ورأس السنة، كما يحتفلون بعيد الفصح اليهودي (بيساح)، ويوم الغفران اليهودي (كيبور).
فرنسا البيضاوية
ولأن الشاي وحفاوة الاستقبال يوحدان المغاربة وإن اختلفت معتقداتهم ودياناتهم، قاطعت عائشة الحديث بـ”صينية” وصحن كعك، ودارت بيننا كؤوس الشاي كما تدور زوبعة الذكريات والأحداث في رأس “جوك” ليرسم ابتسامة على شفتيه، وينطلق في السرد مجددا، عن مرحلة ما بعد الحرب، وما صاحبها من تحولات، من قبيل دخول النساء سوق الشغل، ” سنة 1945 انتهت الحرب، وبدأت النسوة العمل كمساعدات في البيوت، أو كعاملات في المصانع… والدتي اشتغلت في مصنع للصاق الأحذية… كما أعتقد أنها اشتغلت لدى فرنسي من مؤسسي المكتب الوطني للماء والكهرباء يدعى إيميل بواسونيي”.
وبعينين تلمعان من فرط الإعجاب والانبهار بإيميل بواسونيي، استطرد “جوك” في الحديث عن إيميل الذي صار فيما بعد أباه الثاني بعد أن ارتبط بوالدته عقب وفاة والده، ويقول إنه كان “رجلا طويلا، عريضا، وأنيقا”، مشيرا إلى أن إيميل بواسونيي لعب دورا مهما في حياة أسرة “جوك” سيما بعد أن صارت الأسرة مهددة بخطر سقوط البيت الذي يأويها، لولا تدخل بواسونيي ونقله الأسرة إلى “فرنسا البيضاوية” بحي مرس السلطان بالدار البيضاء، وتحديدا بزنقة أكادير حيث سيتعلم “جوك” في مدرسة لائكية أسس التعايش بين الأديان، ويغترف من الديانات الثلاث ما يحتاجه ليبلغ السلام الداخلي.
ويقول جوك: “درست في مدرسة لائكية، وشاركني صفوف الدراسة مسلمون ومسيحيون ويهود، من مختلف الطبقات الاجتماعية، من أغناهم إلى أبسطهم كابن البقال وحارس السيارات… وهذا كان بقيمة الذهب. هناك كونت عدة صداقات وتربيت في كنف الثقافة اليهودية والمسيحية والإسلامية”، ويضيف: “في ثقافتنا تلك الفترة يعم التسامح، ويوم توافيك المنية يقوم الناس بالصلاة عليك لتنتقل إلى الحياة الأخرى وأنت نقي، لذلك عندي توفي أبي الثاني إيميل بواسونيي، أتيت بالإمام ليصلي عليه، كما أتيت بربي (حاخام يهودي)، ثم أخذت جثمانه إلى كنيسة شارع الزرقطوني وصلى عليه المسيحيون والمسلمون واليهود قبل دفنه”.
بناء إسرائيل بسواعد مغربية
“بعد الاستقلال، كان حزب الاستقلال، حزبا قوميا، لكن ليس وطنيا (patriote)، وأنا شخصيا اتفق مع الوطنيين ممن يتقبلون جميع من يعيش على تراب هذا البلد، في حين القوميون فكان يرفضون حتى الأمازيغ… وذلك ما جعل اليهود لا يعيشون في أمان، وعند مطلع الستينات بدأوا هجرتهم نحو إسرائيل… “، كلمات تمتزج بالغصة والحنق تسربت من بين خيوط الحكاية التي يعيد نسجها “جوك” على أسماعنا، ويقول إن هذه الهجرة نحو إسرائيل كانت من نصيب “الدراوش” الذين شكلوا يدا عاملة ساهمت بشكل كبير في بناء إسرائيل، فيما احتفظ المغرب بالأغنياء من مالكي الشركات والأموال حتى لا يتهاوى الاقتصاد المغربي على حد قوله، مشيرا إلى أن الحركة الصهيونية كانت سعيدة بهذا الوضع، مضيفا: “بعد أن تمكنت من استقدام اليهود المغاربة، وبالتالي اليد العاملة الكافية لبناء الطرقات وتشييد البنيان”، مشيرا إلى أن “إسرائيل بنيت بأدمغة اليهود الروس والأوروبيين، وبسواعد المغاربة اليهود”.
وفي ذات السياق، يوضح “جوك” أنه ووالدته فضلا البقاء في المغرب، قائلا: “لم أغادر المغرب يوما، وقمت بإنشاء جسر بين البيضاء وباريس بعد أن استدعيت للخدمة العسكرية في فرنسا، وبدأت هناك أعمالا جعلتني اليوم مستقرا بين المغرب وفرنسا، لكني لا أدري لماذا لم يحدث أن تم استدعائي للخدمة العسكرية في المغرب رغم أنها كانت إجبارية، ولم أستسغ هذا الأمر إلى اليوم.. لقد كان اليهود المغاربة معفيين من الخدمة العسكرية في بلدنا” مشيرا إلى أنه لم يزر إسرائيل يوما، ولا يفكر في ذلك، رغم سعادته بقرار استئناف العلاقات بين المغرب وإسرائيل، وقال: “ما وقع مع إسرائيل كنت قد غنيت عنه قبل نحو 50 عاما أغنية الرسل الثلاثة Salut، شالوم، سلام”.
وبكثير من الحماس والنوستالجيا يتذكر “جوك” فرقته الموسيقية “Les Jaguares”، التي أنشأها في ستينات القرن الماضي، وعن دورها في وقوعه في غرام موسيقى الجاز باعتبارها موسيقى توحد شعوب العالم على اختلاف أديانهم وأجناسهم على حد قولهم، قائلا: “موسيقى الجاز بمثابة تأشيرة سفر نحو وجهة تجمع كل الديانات والثقافات والأجناس… هي أقوى موسيقى في العالم”، وبافتخار كبير يقول إنه من صنع أول مقطع جاز مغربي في العالم وأسماه “الدقة” نسبة إلى موسيقى الدقة نواحي تارودانت، مسقط رأس والده.
ديانتين وسقف واحد
بعد أن ظلت عائشة طيلة فترة حديث “سيت أنفو” إلى “جوك” صامتة في استحياء وخجل، غلبتها مشاعرها النبيلة تجاه صديق عمرها قبل أن يكون مشغلها، وقررت البوح بما يختلج صدرها: “لم أتوقع يوما أن تكون علاقتي بجوك جيدة.. كنت دائمة التفكير في احتمال طردي، لكني اكتشفت العكس تماما، واكتشفت كم هو شخص طيب ونبيل، يحترمني ويباهي بي أمام ضيوفه، ويأتمنني على بيته حتى عند سفره.. أنا أحبه وهو يحبني، ومعه اكتشفت الموسيقى واكتشفت حبي لها، وسافرت معه إلى بلدان لم أتوقع يوما السفر إليها، كما وقفت على مسارح كبرى بفضله”.
وتضيف عائشة أن “جوك” كان وصية والدته لها، مستطردة: “قبل وفاتها رحمها الله أوصتني بجوك، وطلبت مني ألا أفارقه أبدا، وها أنا ذي بجانبه إلى أن تفرق بيننا الموت”، مؤكدة أن اختلاف معتقداتهما لم يسبب أي خلاف بينهما، وأنها يحرصان سويا على الاحتفال بالأعياد والمناسبات الدينية لكليهما، وأنها لا تتعرض لأي تضييق في هذا الجانب، بل دائما ما يشاركها “جوك” الإفطار في رمضان، وكذا احتفالات بعيد الأضحى وعاشوراء، ومن جانبها تشاركه أعياد اليهود وإمضاء أوقات سعيدة معا، على حد قولها.
من جهته يقول “جوك” إنه ورغم أنه يهودي يعيش في البادية وسط المسلمين، إلا أن جميع جيرانه يحبونه كما أحبوا والدته من قبله، وأنه يحزن عندما يرى بعض الشباب من جيرانه يتشاجرون ويسبون بعضهم بـ”اليهودي”، مؤكدا أن الدين لا يجب أن يكون مسبة، وإنما تصرفات الشخص، المحدد لمدى صلاحه أم سوئه.